مــــدخــــــــل:

     لنتمكن من فهم قانون العمل و تحولاته المعاصرة لابد لنا من العودة الى الأصول التاريخية لنشأة علاقات العمل، إنطلاقًا من نشأة العمل التبعي، يليها ميلاد علاقات العمل الفردية وتدخل الدولة لتنظيمها، و كذا فهم طبيعة الصراع بين أصحاب العمل والعمال خلال القرن التاسع عشر (19). وكيف تمكن العمال من استعادة توازن العلاقات المهنية لصالحهم بميلاد النضال الجماعي الذي ادى الى ميلاد الحركة النقابية ليليها بذلك ميلاد علاقات العمل الجماعية.

ففكرة “العمل” لطالما أثارت إهتمام فاعليْن مباشريْن هما: “صاحب العمل” الذي يقدم العمل و”العامل” الذي يقوم بتنفيذه مقابل أجرة. و هو ما يسمى بـــ: “العمل التابع”، الذي يقوم على مبدأ أنه ليس كل من يقوم “بعمل” هو بمثابة “عامل”. فالبستاني في الحديقة العامة، الموظف في البلدية، المقاول، الفلاح، المحكوم عليه بتأدية عمل ذي منفعة عامة، العامل المتطوع في جمعية العامل في السوق السوداء، مدير شركة، موظف بالبنك، الرياضي…الخ، جميعهم عمالاً يؤدون عملا. لكن الإختلاف يكمن في التكييف القانوني لعمل كل واحد منهم. فكل هذه الفئات تقوم بعمل و تتلقى مقابل ذلك أجرة أو مرتب. إلا أنها لا تخضع جميعا للتبعية.

       ففكرة العمل كانت موجودة منذ ظهور الإنسانية والإنسان البدائي كان يصطاد، يزرع، وفي صراع دائم مع الطبيعة من أجل البقاء ثم بدأ تنظيم العمل وتوزيعه على الأفراد في العائلة ثم العشيرة فالقبيلة. ومع بداية تنظيم المجتمع بدأ الصراع على وسائل النتاج، فظهرت طبقة الأسياد وطبقة العبيد. فكان العبد خاضعا لسيده كشيء من الأشياء(في البداية كان العامل يعتبر شيئًا) يقوم بتنفيذ أوامره دون الحصول على أجر معين. الا أن بعض الجماعات عرفت قيام فئة من الأحرار بأداء عمل لغيرهم مقابل أجر، وكان القانون الروماني يعتبر هذا العمل نوعا من “الإيجار”،  ماعدا هذا الإستثناء كانت علاقات العمل في الحضارات القديمة كالقانون الروماني واليوناني تقوم على العبوديةl’esclavagisme » « .

اذا كيف كان امتداد الوضع؟

وقد امتد الوضع حتى القرون الوسطى التي في بدايتها شهد نظام العمل نوعا من التطور. فإلى جانب العبيد كان الرجال الأحرار يزاولون بعض النشاطات عند النبلاء، ولم يتمكنوا من تحسين ظروفهم كتخفيض مدة العمل أو رفع أجورهم، لأن النبلاء عادة ما يضطرون إلى استبدالهم بالأقنان الأقل كلفة والأكثر جهدا وخلال هذه المرحلة ظهر نظام الإقطاع (الذي يعرفه قاموس أكسفورد الإنجليزي على أنه “النظام الاجتماعي السائد في أوروبا خلال العصور الوسطى، حيث كان النبلاء يحتفظون بأراضي من الملك مقابل الخدمة العسكرية. وكان المستأجرون يستأجرون الإقطاعية من النبلاء، بينما كان الفلاحون (الأحرار أو العبيد) مجبرون على العيش على أرض سيدهم ومنحه الولاء والعمل مقابل نصيب من الإنتاج والحماية العسكرية.

لذلك نجد مصطلح الإقطاع بشكل عام استُخدِم من قبل المؤرخين المعاصرين لوصف العلاقة بين الملك والنبلاء فقط، وتُوصف العلاقة بين الأقنان والفلاحين ومالك الأرض أو المستأجر باسم (بالمانورالية). الذي سيطر فيه الأسياد والنبلاء على النشاط الزراعي مستغلين في ذلك الأقنان (عبيد الأرض).

     وهو أهم نشاط اقتصادي سائد في تلك المرحلة. ولم تنشأ فيه علاقات العمل بالمعنى الصحيح لأن العامل في الزراعة كان تابعا لصاحب الإقطاع بشكل لا يسمح له بأن يتمتع بحرية العمل فكان خاضعا لسلطة سيده بصفة مطلقة.

وماذا عن النشاط الصناعي؟

    إلى جانب النشاط الزراعي بدأ النشاط الصناعي في التبلور ابتداء من القرن الثاني عشر في شكل صناعات مصغرة ونشاطات حرفية ثم تجارية في شكل مهن وتزامن ذلك مع ظهور المدن وبداية ازدهارها فظهر نظام الطوائف، وكانت كل طائفة تقوم على طبقات، وفي قمة الطائفة نجد شيخ الطائفة أو المعلم ثم العامل، ثم الصبي تحت التمرين، وكل منها تحكمها قواعد خاصة بالعمل فيها من حيث شروط العمل، الأجور، تنظيم أوقات العمل، الراحة، الإجازات وقواعد الترقية من درجة إلى أخرى، وهذا التنظيم حددت فيه علاقة العمل والعقود الفردية ومدة الإلتزام والأجر. وهي أولى بوادر تنظيم علاقات العمل.

      وأمام تزايد دور وقوة هذه الطوائف، شرعت في ممارسة نوع من الإحتكار في التشغيل والإنتاج والتوزيع والتحكم في السوق. ثم غلق الأبواب أمام أية منافسة أو الدخول إلى الحرفة. واستمر الوضع على هذا المنوال إلى غاية قيام الثورة الفرنسية سنة 1789 التي قضت على” هيمنة” نظام الطوائف.

      هذا وقد أدت العراقيل المقيدة للحرية الفردية والإبتكار، التي سادت خلال القرن الثامن عشر (18) إلى تفكير رجال الصناعة بفرنسا، المنادون بحرية الصناعة والتجارة في التحالف مع الطبقة العمالية الكادحة الساخطة على نظام الحكم والمتعطشة للحرّية. لأجل تنظيم ثورة بهدف تغيير الأوضاع لصالحها عبر القضاء على النظامين الملكي والكنائسي ونظام الطوائف الرافضين للإصلاح السياسي، الاقتصادي واجتماعي، وتحقق ذلك سنة 1789.

إذا مما سبق هل نجحت هذه الثورة في بناء نظام ليبيرالي؟

      نعم استطاعت هذه الثورة تأسيس نظام ليبرالي مبنى على الحرّية الفردية، القائمة على مبدأي: “حرية العمل” و “حرية الصناعة والتجارة”. ورفض أي تقييد لهما باعتبارهما قيم ثورية وجمهورية فكانت من أسباب قيام الثورة الصناعية (1750- 1830) وأسسها. ولتكريس هذه المبادئ تم إلغاء نظام الطوائف المقيد لحرية العمل والمبادرة في مارس1791 بموجب مرسوم “Allarde ” الذي منح الحريةّ لكل شخص لممارسة أي نشاط من اختياره، وتبعه قانون”Chapelier le ” في 14 جوان 1791 الذي مُنع بموجبه أي تكتل مهني لأصحاب العمل أو العمال. فكان العامل حرا في اختيار العمل الذي يناسبه، وصاحب العمل يتمتع بدوره بحرّية استخدام من يراه مناسبا دون قيود.

     هذا وكانت الطبقة العمالية خلال الثورة الصناعية مُشكلة في معظمِها من السكان الزراعيين النازحين من الأرياف نحو المدن وكذا من ممتهني الحرف.  وكان يحكم علاقات العمل خلال هذه المرحلة مبدأ سلطان الإرادة ومبدأ الحرية التعاقدية، لاسيما بعد صدور القانون المدني الفرنسي سنة 1804، الذي كيف علاقات العمل على أنها “عقد إيجار الخدمات” بموجب المادتين

“1780 ” و”1781″ منه واعتبار العمل “سلعة”، وقد كرس هذا المبدأ المساواة القانونية بين العامل و صاحب العمل. فأصبحت علاقات العمل تخضع للقواعد العامة الخاصة بالعقود في القانون المدني. وعكس فرنسا كانت المانيا السباقة في ابتكار قواعد مستقلة مختلفة عن القانون المدني لتنظيم علاقات العمل.

     لكن قاعدة المساواة القانونية التي كرسها القانون المدني كان يقابلها عدم المساواة الإقتصادية فكان العامل طرفا ضعيفا أمام قوة صاحب العمل المالك لوسائل الإنتاج. فلم يكن للعامل القدرة على التفاوض مع صاحب العمل على قدم المساواة حول شروط العمل وظروفه والأجرة، خاصة مع تزايد البطالة. وأدى عدم التوازن بين الطرفين إلى تزايد تعسف صاحب العمل في حق العمال  وتزايد الإستغلال من تدني الأجور، انعدام الراحة، شروط العمل القاسية، انعدام الحماية كالنظافة والأمن والرعاية الإجتماعية لاسيما عند فئة الأطفال والنساء، وكثرة الحوادث المهنية دون التعويض عنها.

02. تطور قانون العمل في الجزائر

مر قانون العمل في الجزائري بعدة مراحل أولها المرحلة الاستعمارية التي تميزت بسيطرة المستعمر على علاقات العمل ولا يوجد قانون عمل خاص بالجزائر. حيث كان يطبق القانون الفرنسي على أساس كونها مستعمرة تابعة لفرنسا. اذ كان العامل الجزائري يفتقد لأدنى حقوقه، حيث كان اهتمامه الوحيد المطالبة بالحرية والاستقلال. ورغم ذلك فقد تم تأسيس الاتحاد العام للعمال الجزائريين سنة 1956. نتيجة للاضرابات التي قام بها العمال في تلك الفترة.

وفي مرحلة ما بعد الاستقلال، فقد عرفت الجزائر فراغا قانونيا في كل المجالات لذلك تم تمديد العمل بالقوانين الفرنسية. حيث تم اصدار القانون رقم 62-57 المؤرخ في 31 ديسمبر 1962 الذي ينص على تمديد العمل بالتشريع الفرنسي الا ما تعارض منه مع السيادة الوطنية. كما أُسنِد للعمال في تلك الفترة مهمة إدارة وتسيير أملاك ومؤسسات المستعمر، التي أصبحت شاغرة بعد صدور جملة من النصوص القانونية والتنظيمية كالأمر رقم 62-20 المؤرخ في 24 اوت 1962 المتعلق بتسيير وحماية الأملاك الشاغرة. والذي تم الغاؤه في 19 جوان 1965 وتم تعويضه بنظام المؤسسات العامة ذات الطابع الصناعي والتجاري والشركات الوطنية، حيث عرفت هذه المرحلة بهيمنة الدولة على النشاط الاقتصادي.

وفي سنة 1971 صدر الامر رقم 71-74 المؤرخ في 16-11-1971 المتعلق بالتسيير الاشتراكي للمؤسسات حيث كرس حق مشاركة العمال في التسيير. وبالتالي اصبح العامل منتجا ومسيرا في آنٍ واحد، وصدر أيضا الأمر رقم 71-75 المتعلق بعلاقات العمل في القطاع الخاص رغم أن القطاع الخاص كان شبه منعدم لتعارضه مع التوجه الاشتراكي الذي تبنته الجزائر خلال تلك الفترة.

وماذا عن سنة 1975؟

وشهدت سنة 1975 اصدار نصوص قانونية في مجال العمل تتلاءم مع التوجه الاقتصادي للدولة. نذكر منها الأمر رقم 75-31 المؤرخ في 29-04-1975 المتعلق بالشروط العامة لعلاقات العمل في القطاع الخاص. والذي تضمن 362 مادة والأمر رقم 75-30 المتعلق بالمدة القانونية للعمل. وكذلك صدر الامر رقم 75-32 المتعلق بالعدالة في العمل يتضمن فصلين، تناول في الفصل الأول المحكمة المختصة بالمسائل الاجتماعية. وخصص الفصل الثاني للإجراءات المتبعة أمام المحكمة الاجتماعية والأمر رقم 75-33 المتعلق باختصاصات مفتشية العمل، والشؤون الاجتماعية والذي جاء أيضا في فصلين.

ويعتبر القانون رقم 75-12 المتضمن القانون الأساسي للعامل من أهم تشريعات العمل في الجزائر. إذ جاء بمبدأين هامين هما مبدأ الشمولية ومبدأ التوحيد من جهة، و من جهة أخرى قام بتكريس المبادئ الواردة في الميثاق الوطني ودستور 1976 . وتطبيقا للاحكام الواردة في هذا القانون صدرت مجموعة من القوانين والمراسيم نذكر منها: القانون رقم 82-05 المتعلق باتقاء الخلافات الجماعية في العمل و تسويتها.

وماذا عن قانون خاص بعلاقات العمل الفردية؟

صدر أيضا القانون رقم 82-06 المتعلق بعلاقات العمل الفردية الذي جاء ليحدد و يبين كيفية تطبيق الأحكام و المبادئ الواردة في القانون رقم 78-12 . وفي نفس السنة صدر أيضا المرسوم رقم 82-302 المتعلق بكيفيات تطبيق الاحكام التشريعية الخاصة بعلاقات العمل الفردية.

كما صدرت في سنة 1983 عدة قوانين متعلقة بالضمان الاجتماعي نذكر منها القانون رقم 83-11 المتعلق بالتامينات الاجتماعية (المخاطر المتعلقة بالمرض، الولادة، العجز و الوفاة). والقانون رقم 83-12 المتعلق بالتقاعد ليوحد بين العمال الأجراء و الموظفين في الهيئات و الإدارات العمومية. وكذا القانون رقم 83-13 المتعلق بحوادث العمل والامراض المهنية. وأيضا صدر في نفس السنة القانون رقم 83-14 بالتزامات المكلفين في مجال الضمان الاجتماعي (التصريح بالنشاط والعمال). وكذا القانون رقم 83-15 المتعلق بالمنازاعات في مجال الضمان الاجتماعي (منازعات عامة، طبية، وتقنية متعلقة بالنشاط الطبي).

وفي نهاية سنة 1986 تم البدأ في التحضير لمرحلة استقلالية المؤسسات نتيجة لإنخفاض أسعار البترول وانهيار قيمة الدينار وارتفاع مديونية الدولة، فضلا عن تعفن و تدهور الأوضاع الاجتماعية للطبقة العاملة، لذلك كان من الضروري القيام بمجموعة من الإصلاحات في شتى الميادين. الشيئ الذي تحقق من خلال الندوة التي تم عقدها يومي 21/22-12-1986 وكان الهدف منها تحسين القانون الأساسي للعامل والمراسيم التطبيقية له. ووضع لجنتين لتقييم هذا القانون وتقديم الاقتراحات العملية بقصد تعديله او الغاءه.

وهل تم تقديم اقتراحات من طرف اللجنتان؟

نعم تم ذلك حيث قدمت اللجنتان مجموعة من الاقتراحات من اجل تكييف العمل وتعديله وفق خطة يتم تطبيقها على مراحل تتمثل في:

  • المرحلة الأولى(1988-1989): تحرير المؤسسات من القيود التي فرضها القانون الأساسي العام للعامل والتحضير للتعديل الشامل لهذا القانون اة الغاءه.
  • المرحلة الثانية (1990):  هي مرحلة اصدار التعديلات الخاصة بسن قانون جديد.
  • المرحلة الثالثة (1990-1994): متابعة اصدار كافة القوانين والتعديلات الخاصة.
  • وتطبيقا للمبادئ الواردة في دستور 1989 وتجسيدا لإقتراحات اللجنتان والتي لاقت القبول من قبل السلطات صدر القانون 90-11 المؤرخ في 21-04-1990 المتعلق بعلاقات العمل ولكون ان احكام هذا القانون وردت بصفة عامة وجب صدور نصوص تنظيمية لتفصيلها. كما ترتب عن ذلك أيضا صدور عدة قوانين ذات طابع تنظيمي منها قانون رقم 90-04 المتعلق بتسوية المنازعات الفردية والقانون رقم 9+0-02 المتعلق بتسوية المنازعات العامة الجماعية وممارسة حق الاضراب و القانون 90-03 المتعلق باختصاصات مفتشية العمل.

ليتضح لنا من خلال ما سبق التطرق اليه فان تطور قانون العمل، في الجزائر كان نتيجة لعدة خيارات وتغييرات ومراحل عرفتها البلاد منذ الاستقلال في مختلف المجالات الاقتصادية، السياسية، والاجتماعية.

المراجع:

  • معزيز عبد السلام (2018). الوجيز في قانون العمل، د.ط، دار هومة للطباعة والنشر والتوزيع_الجزائر(ص07-127).
  • زنقيلة سلطان (2021). الاضراب في الجزائر”دراسة قانونية”، مجلة القانون و التنمية المحلية، مجلد(03)، عدد(02)، الجزائر ص(139 – 160).
  • كمال مخلوف (2011). الاطار التنظيمي لإتفاقية العمل الجماعية في التشريع الجزائري، مجلة معارف، مجلد (03) عدد (04) ص(119- 136).

About Author

Leave a Reply

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *